حصريا

ابنّ خَلدُون؛ صَفحاتٌ لا تُطوَى-الأستاذة خَولَة مُرتضوِّيْ

1 376

ابنّ خَلدُون؛ صَفحاتٌ لا تُطوَى

الأستاذة خَولَة مُرتضوِّيْ- باحثة في الدين المقارن

Khawlamortazawi@gmail.com

 

_____________________________________________________

 

إنَّ فضل علمائنا المسلمين الأوائل على الحضارة الإنسانية العريضة؛ فضلٌ كبيرٌ لا يمكننا عدَّهُ وحصرُه، إذ كانت لتلك الجهود الجادَّة التي قدمها هؤلاء الأكابر؛دورٌ أساسيٌ في أهم الصناعات والاكتشافات والاختراعات في مختلف المجالات التي تتنعمُ بها البشرية في عصرنا الحالي، فقد وضعوا بصماتهم التاريخية وأثَّروا في عصور نهضة البشرية أجمع، مساهمين في بناء الحضارة الإسلامية الذهبية التي تغنت في فضلها الأمم، وما زال مسلمو اليوم يفخرون بأسلافهم وأجدادهم الذين أسسوا لجملة كبيرة من العلوم التي أخذها عنهم الغرب وطوَّرها إلى يومنا هذا.

وفي هذا يقول برينولت في كتابه: (تكوين الإنسانية): “إنَّ العلم هو أعظم ما قدمته الحضارة العربية على العالم الحديث عامة، والجدير بالذكر أنَّهُ لا يوجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان فيها أثر الحضارة والثقافة العربية، وإنَّ أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي، الذي كان المحرك للتطبيق العلمي على الحياة، وإن الادعاء بأنَّ أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي؛ادعاء باطلٌ وخالٍ من الصحة، جملة وتفصيلًا، فالفكر الإسلامي هو الذي قال: انظر، وفكر، واعمل وجرب حتى تصل إلى اليقين العلمي”.
لقد كان لعلماءِ المُسلمين دورٌ بارز في مجال العلوم الفكرية والإنسانية، حيثُ قاموا بابتكار علومٍ راقية؛ اهتمت بالجانب الإنساني الاجتماعي، وهو الجانب الذي يظهر نتيجة الاتصال والتفاعل البشري والذييتمخض عنه العلاقات المتبادلة والتي تكوِّن بدورها لما يُطلق عليه اليوم بمصطلح الثقافة الإنسانية المشتركة.

وبالرُغم من أنَّ التفكير الاجتماعي قديم جدًا قِدم الإنسان نفسه، إلا أننا نجد أنَّ الاجتماع الإنساني لم يتبلور كعلم إلا في فتراتٍ لاحقة، وكان أوّل من أشار إلى وجود واستقلال موضوع هذا العلم عن غيره هو العلامَّة المسلم؛ابن خلدون، والذي وضع أساس علم الاجتماع وابتكره، فقد صَرَّح وبشكلٍ واضح على أنَّهُ قام باكتشافِ علمٍ مستقل، لم يتطرق لهُ السابقون من العلُماء، حيثُ قال: “وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علمٍ من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا”.[1]

وقد دعا ابن خلدون العلماء إلى استكمال ما نقص من هذا العلم من بعده، فقال: “ولعلَّ مَنْ يأتي بعدنا -ممن يُؤَيِّده الله بفكر صحيح، وعِلْـمٍ مُبِينٍ- يغوص في مسائِلِه على أكثر مما كتبنا، فليسَ على مستنبط الفنِّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله، وما يُتَكَلَّم فيه، والمتأخِّرُون يُلْـحِقُون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل”.[2]

إنَّ ابن خلدون يمثل نقطة التحول الكُبرى في تأسيس علم الاجتماع وكتابة التاريخ الإنساني، فقد هزَّ كيان الفكر الإنساني العالمي عندما وضع ديباجة تأسيسية للقوانين والآراء التي يمكن تطبيقها وقياسها على كُل المجتمعات البشرية، فقد انطلقت نظريته؛ من أنَّ الإنسان لا يمكنه العيش إلا في مجتمع، وبناءً عليه فإنَّهُ يعيش مع شعب، وهذا الشعب يعيش على أرض، الأمر الذي يتطلب أن يُنظم حياتهم حاكمٌ يَسُنُ النُظُم التي تُؤطر علاقته بغيره من المجموعات البشرية، وبناءً على هذا التصور الأول؛ أسَّس ابن خلدون لعلم العمران البشري الذي قامت عليه الكثير من الدراسات والنظريات العلمية ذات التأثير بالغ الأهمية على حياة الإنسان وعلاقته بمن حوله.

إنَّ ابن خلدون هذا المؤرخ الإسلامي الشهير ورائد علم الاجتماع الحديث؛ هو ولِيُّ الدين أبو زيد؛ عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي. ولد بتونس في مايو 1332م، وعاشَ في الجزائر، وكانت أسرته التي كانت ذات نفوذٍ في إشبيلية بالأندلس؛ تنحدر من أصول يمينةٍ عربيةٍ أصيلة،كما ذكر في كتاباته عنها.

نشأ ابن خلدون في بيتِ مجدٍوعلمٍ عريق، فحفظ القرآن الكريمفي طفولته المبكرة جدًا، وكان والدُهُ هو معلمُهُ في ذلك، تتلمذ بعدها على يَدِ كبار عُلماء عصره، فدرس علوم التفسير والقراءات والفقه المالكي والحديث، والتوحيد والأصول، بالإضافة إلى علوم اللغة من الأدب والبلاغة والصرفِ والنَحو، كما درسَ علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة، وكان في كُل تلك العلوم مَثَارَإِعجاب شيوخِهِ وأساتذتِه.

يُعدّ ابن خلدون من كبار العلماء الذين أنجبهم المغرب العربي، إذ قدَّمَ نظرياتٍجديدة ومتعددة في مجالي التاريخ والاجتماعفي كتابيه: المقدمة والعبر.

وخلال رحلته المهنية؛ امتهن التدريس في فاس بالمغرب بجامعة القرويين تحديدًا، ثمَّ عمل بعدها في الأزهر بالقاهرة، ثمَّ بالمدرسة الظاهرية، وغيرها العديد من محافل المعرفة الكثيرة في زمانه -القرن الرابع عشر الهجري- في العالم الإسلامي، وعلاوةً على التدريس؛ عمل ابن خلدون في مجال القضاء أكثرَ من مرَّة، وحاول تحقيق العدل الاجتماعي في القضايا التي أصدر عنها أحكامًا. [3]

يُعتبر ابن خلدون؛ المُنشئ الأول لعلم العمران أي علم الاجتماع البشري، وقد تحدث عن هذا العلم في مقدمته الشهيرة التي عالج فيها ما يُصطلح عليه في عصرنا الحالي بـ (المظاهر الاجتماعية، أو أحوال الاجتماع الإنساني، أو واقع العُمران البشري)، وقد اعتمد في دراساته وملاحظاته العلمية على تنقيب وتَعَقُّب ظواهر الاجتماع البشري في عددٍ من الشعوب التي أُتيحت لهُ الحياة بين أهلها والاحتكاك المباشر معها.

لقد كانت مقدمة ابن خلدون من الكُتب السابقة لعصرها، حيثُ تأثر بها عددٌ كبيرٌ من علماء الاجتماع الغربي ممن جاءوا من بعده، أمثال: الألماني ليسنج، والإيطالي فيكو، والفرنسي فولتير، والإنجليزي مالتوس، والفرنسيين الشهيرين؛ جان جاك روسو وأوجيست كونت.

وفي ذلك قال عالم الاجتماع النمساوي الشهير جمبلوفتش: “لقد أردنا أن ندلِّلَ على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوربي، جاء مسلم تقيٌّ (يقصد ابن خلدون)، فدَرَس الظواهر الاجتماعية بعقلٍ مُتَّزِنٍ، وأتى في هذا الموضوع بآراءٍ عميقة، وإن ما كتبه هو ما نسمِّيه؛ اليوم علم الاجتماع”.[4]

عَرَضَ ابن خلدون في مقدمته كُل ما لديه من معرفةٍ وعِلم، فجاءت في نَظمٍ ثمينٍ متقدمٍ جدًا على العصر الذي كُتبَت فيه، وضمَّت المقدمة ستَّة فصول، هي: الفصل الأول: (في العمران البشري)، وهي تقابل في عصرنا (علم الاجتماع العام)، وقد دَرَس فيها ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات. الفصل الثاني: (في العمران البدوي)، وقد دَرَس فيها الاجتماع البدوي، كاشفًا أهمَّ خصائصه المميِّزة، وأنَّهُ أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه. الفصل الثالث: (في الدولة والخلافة والمُلْك)، وهو يقابل في عصرنا (علم الاجتماع السياسي)، وقد دَرَس فيه قواعد الحُكم، والنُّظُم الدينية، وغيرها. الفصل الرابع: (في العمران الحضري)، وهو ما يقابل في عصرنا (علم الاجتماع الحضري)، وقد شرَحَ فيه جميع الظواهر المتَّصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضُّر هو غاية التمدُّن. الفصل الخامس: (في الصنائع والمعاش والكسب)، وهو ما يقابل في عصرنا (علم الاجتماع الاقتصادي)، وقد دَرَس فيه تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع. الفصل السادس: (في العلوم واكتسابها)، وهو ما يقابل في عصرنا (علم الاجتماع التربوي)، وقد درَسَ فيه الظواهر التربوية، وطُرُق التعلم وتصنيف العلوم.كما دَرَس ابن خلدون في مقدمته الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق.[5]

إنَّ الفكر الديني السياسي عند ابن خلدون يتضح عندما يقوم بتقسيم الحياة إلى ثلاثة أعمدة: العبادة، تنظيم التعاون، تحصيل المعاش، وفي هذا فهو يجد أنَّ العبادة هي علاقة خالصة بين الإنسان وربِّه، أما التعاون والتحصيل فإنّها لا تبتعد كثيرًا عن فعل العبادة في تجاوزها للذات إلى المحيط، فهو يرى أنَّ إعمار الحياة ليس إلا تديُّنًا، كما أنَّ التقوى في فكرِهِ؛ هي المفعِّل الأساسي للأخلاق الإسلامية، والباعثة الأولى على التطور في المجتمع الإسلامي، فالتقوى عند ابن خلدون تعتبر عاملًا حضاريًا يمكنها تحويل الهمج إلى مواطنين صالحين، والوحوش إلى آدميين، والصدور الفارغة إلى قلوبٍ عامرة بالشجاعة والأمل، وفي مُقابل ذلك يرى ابن خلدون أنَّ خوفَ الإنسان من الأحكام السلطانية المزروعة على أساس الانقياد المنافق والخنوعِ والخضوعِ الباهت؛ تخُلُق نفوسًا مريضة؛ لا تسعى إلا لإشباع نزواتها المكبوتة وإرضاء مصالحها المختلفة، فهو يؤكد أنَّ الأحكام التي لا يُؤمن بعدالتها عامَّة الناس؛ هي ليست إلا معاوِلَ هدم في كيان الدولة التي سريعًا ما ستزول بفعل ذلك.

كما ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة هي الوجه الآخر للدين، أو هي تمظهرٌ من مظاهر سلامة الدين، حيثُ نجده بذلك يُأسس لمعادلة أنَّ سلامة التدين تُؤدي إلى قيام دولة عادلة وقوية، لذلك يقول: ” إذا كان فيهم النبي أو الوَلِّي الذي يَحُثُهم على القيام بأمرِ الله ويُذهب عنهم مذموماتِ الأخلاق ويأخُذُهم بمحمودها ويؤلِف كلمتهم لإظهار الحق؛ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. واعتبر ذلك بدولتهم في المِلَّة لِما شُيَّدَ لهُم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا وتتابع فيهم الخلفاء، عَظُمَ حينئذٍ مُلكهم وقوَي سُلطانهم”.[6]

ويَجد ابن خلدون أنَّ دوام الحاكم وقوة شوكته مرهونٌ أساسًا بطاعة الله تعالى، وامتثال شريعته، فالمسألة الأخلاقية القائمة على تنفيذ أوامر الله وخشيه نواهيه هي أساس الحُكم في كل مكان، وإنَّ أي محاولة لتأسيس الحُكم خارِجَ هذه المعادلة مجزومة بالزوالِ والفشل والرجوع إلى التوحُشِ والفقر، وتخريب العمران الإنساني، وكل ذلك محققٌ إن انتبذت الدولة الدين، حتى وإن ظهرت الدولة لحينٍ من الدهر في ثوبِ العزَّةِ والقوَّة والمِنعة، ويقول في ذلك: ” ولكن انقطعت منهم عن الدولة أجيالٌ نبذوا الدين فنَسَوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم فتوحشوا كما كانوا، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا السياسة، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غَلَبٌ على الدولة المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران”.[7]
ويعتبر ابن خلدون من أوائل الذين تطرقوا للعلاقة بين السكان والتنمية بشيءٍ من الدِقَّة والتعمق، فقد ذَكَرَ في مقدمته: “إنَّ الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها، والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهُم الملك والتَرَف، كَثُر التناسل والولد،ويقول كذلك: “إنَّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجتِهِ من الغذاء، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فَرضُه، وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصُل إلا بعلاجِ كثيرٍ من الطحن والعجن والطبخ، وكلُ واحدٍ من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين، والآلاتُ لا تتم إلا بصناعاتٍ متعددة، وهَبَّ أنَّهُ يأكله حبًا من غير علاج، فهو أيضًا يحتاج في تحصيله حبًا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدرِاس الذي يُخرج الحَبَ من السُنبل، فلابُدَّ من اجتماع القدرة الكثيرة من أبناء جنسه، ليحصُلَ القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف”، وما أثاره ابن خلدون من مَثَل يتعلق بالزراعة، يُمكن تطبيقه اليوم على سائر الصناعات الثقيلة والخفيفة، وكذلك الخدمات التي تؤديها الشركات الكبيرة والمؤسسات العامة، مما يؤكد عمق النظرية ودقة انطباقها على الواقع العملي، وتأكيد أثر زيادة السُكان في تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية.[8]

ويملك ابن خلدون نظريةً في الاجتماع والعمران البشري تقوم على التفرقة بين الطبيعي والصناعي، فالطبيعي يشمل الضروريات أو الأساسيات اللازمة لمعاشِ الإنسان في مجتمعاته الصغيرة، والصناعي (وهو محمودٌ إن لم يكن فيه إسراف) هو ما ليس ضروريًا ولا لازمًا، وإن يكن وجوده مشروعًا أحيانًا إذا جاء من جهة الشرع كما في حالة الدعوة الدينية بإزاء العصبية، أما الدولة (وأصلُها الوازع الضروري لبقاء الاجتماع) فهي من القِسم الطبيعي في أصلها، وإن لم يكن المُلْك العظيم من ضرورياتها.

ويجِد ابن خلدون أنَّ الدين يقع في أصل العمران لاحتوائه على فِكرة الاستخلاف؛ بيد أنه في العمليات اللاحقة للاجتماع الإنساني وتطوراته لا يلعب دورًا رئيسًا؛ لأنّ الاجتماع يقتضي المُلْك ولا يقتضي الدين، والمُلْك ثلاثة أقسام: طبيعي وسياسي وإسلامي، ومن الواضح أنّ ابن خلدون معجبٌ بالمُلْك السياسي القائم على تحصيل المصالح الدنيوية المعقولة، أمّا السياسة الإسلامية أو المُلْك الإسلامي فيدخُلُ فيه الدين بقوة؛ لأنّ الدولة في الإسلام مكلَّفة بمهام دينية، وبذلك تختصُّ التجربة الإسلامية باجتماع الخلافة الدينية والمُلْك السلطاني في قلبها.[9]

لقد تميَّز ابن خلدون بموسوعية اطِّلاعِهِ خاصةً في كُل ما كتَبَهُ الأوائل عن أحوال البشر، حيثُ كان قادرًا على استعراض الآراء المختلفة ونقدِها مع انصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه، وقد كانت لخبرته الواسعة في الحياة الإدارية والسياسية وفي القضاء إلى جانب أسفارُهُ المتعددة إلى الحجاز والشام ومصر وغيرها من دول شمال وغرب أفريقيا بالغ الأثَر في موضوعيته العلمية ودقة ملاحظته والتي تجلّت في كتاباته المتميزة عن التاريخ.

إنَّ أصالة ابن خلدون تبدُو جليَّة في تجديده لعلم التاريخ، ويتجلى ذلك في كتابه: (العَبَر وديوان المبتدأ والخبر)، وفيهِ تتضح عقليتُهُ الواعية الناقدة ومنهجيته العلمية المنصفة، فهو في هذا الكتاب يقوم باستقراء الأحداث التاريخية المختلفة بطريقته العقلية العلمية المميزة، فيقوم بتحقيقها واستبعاد كُلِ ما يتبين لهُ منها التهافت أو الاختلاق، يقول أرنولد توينبي: ” إنّ ابن خلدون قدَّمَ فلسفة للتاريخ تعتبر من دون شك من أعظم ما أنتج، عبقرية لم يكن لها مثيل في أي مكان أو زمان”.

وقد انتهج ابن خلدون منهجًا مُجددًا في تنظيمهِ مؤلِفَه العِبر؛ والذي يختلف تمامًا عن الكتابات التاريخية التي سبَقَتُه، حيثُ لم يقُم بمحاكاة طريقتها في عرض الوقائع والأحداث وُفقًا للسنين، إنما اتخذ نظامًا جديدًا أكثر دقَّة من تلك الأنظمة، حيثُ قسَّم مؤلَفَهُ إلى عِدَّةِ كُتُب، وقسَّمَ كُل كتاب إلى عدَّة فصول، متناولًا تاريخ كُل دولة بشكل منفصل ومتكامل، متميزًا على من سبقهُ من المؤرخين الذي نهجوا هذا النهج؛ كالبلاذري، والواقدي، والمسعودي وابن حكيم بالدقة والوضوح وذلك في التبويب والترتيب، والبراعة في التنظيم والتنسيق وعقد العلاقة بين الأحداث المختلف، وما يُؤخذ عليه في هذا الجانب نقلِهِ لرواياتٍ ضعيفة ليسَ لها أيُّ سنَدٍ موثوقٍ به.[10]

ولم يَغِب ابن خلدون عن دراسة أم العلوم؛ الفلسفة، فنجِدُهُ يرى أنَّ الفلسفة من العلوم التي استُحدِثَت وطُوَّرَت مع انتشار العُمران الإنساني، ويُعرِّفُها بقوله: “إنَّ قومًا من عقلاء النوع الإنساني زَعَمُوا أنَّ الوجود كلَّهُ، الحِسِّي منه وما وراء الحِسِّي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعِللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأنَّ تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع؛ فإنها بعضٌ من مدارك العقل، وهؤلاء يُسَّمَونَ فلاسفة؛ جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني مُحِب الحكمة، فبحثوا عن ذلك وشمَّروا لهُ وحوَّموا على إصابة الغرض مِنه ووضَعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحقِ والباطل وسموه بالمنطق”.[11]

وقد حَّذَرَ ابن خلدون دارسي الفلسفة من الغوصِ فيها والتعامُلِ بها قبل الاطلاع المدروس على التشريعات الصحيحة في الفقهِ والتفسير، وفي هذا اتفق ابن خلدون مع ابن رُشد على أنَّ هذا العلم تحديدًا يتطلب وجوبًا الإلمام بالعلوم الشرعية الأساسية إلمامًا دقيقًا، حتى لا يَضِلَّ عقلُ الدارسِ ويتوه في مجاهلِ التجريد العقلي، فوظيفة الشرع الأولى رَدُّ العَقلِ إلى البَسيط لا المُعقَّد، وفي هذا قال ابن خلدون: “ليكُن نَظَرُ من يَنظُر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم المِلَّة، فقَلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها”.

كان لابن خلدون مساهماتٍ فعّالة في علم التربية، والذي لم يكن متعارفًا حينها كعلمٍ أكاديمي مستقل عن العلوم الأخرى المتقاربة، وتمحورت أهمّ أفكاره الرئيسية في هذا العلم في التالي: ضرورة التدرُّج في تعليم الصبي؛ بدايةً ببعض سُورِ القُرآن الكريم وبعضِ الأشعار حتى تُقَوّى مَلَكَةُ الحِفظِ عِنده، حيثُ أكّد في كتاباته على أهمية التدرُّج في التعليم وأكّدَ على البدء بالمحسوسات والتدرج حتى الملموسات، وأشارَ أنَّ علم التربية ينقسم إلى علمين عِلمٌ نَقلي وعِلمٌ عَقلي.

ودعا ابن خلدون المربين إلى عدم الاستكثار من العلـوم الآلية التي لا ينبغـي أن توسَّع فيها الأنظار ولا توسَّع فيها المَسائل، مِنها على سبيل المثال لا الحصر؛ عِلم النحو،وبرر ذلك بأنَّ التَعَمُّق والاستكثـار من مَسائله المُقفلة سيُخرجـها عن المقصود، ويصيرُ الاشتغالُ بها لغوًا،خاصةً ونحنُ نَعلم أنَّ النحو العربي أنحـاءَ ومدارسَ مختلفة،وأنَّ الهدف الأسمى منه؛ هو معرِفةُ صـوابِ الكلام من أخطائه،وإصلاح الألسنة من اللَحن أو اللَكنة.[12]

قام ابن خلدون بعظمة فكرِهِ الإسلامي المتميز؛ بتأليف العديد من الكتب العلمية في مجالاتٍ شتى؛ شهدت لهُ بالجديَّة العلمية والدَقَّة والقدرة البارعة على التجديد وإثراء الفكر الإنساني. وُيمكن القول أنَّ أهم كتبهِ هي التالي: كتاب: العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعَجَم والبَربَر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، كتاب: مقدمة ابن خلدون، والتي كتبها ابن خلدون وهو في الخامسة والأربعون من عمره، والتي طغت شهرتها على الكاتب نفسه، كتاب: شرح البُردَة وهو كتابٌ في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كتاب: الباب المُحصِّل في أصول الدين، وهو تلخيص كتاب (فيعلم التوحيد) لفخر الدين الرازي، كتاب: (في الحساب)، كتاب: (رسالة في المنطق)، بالإضافة إلى كتابه الشهير: (التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا) والذي يُعدُّ من المؤلفات الرائدة في فن الترجمة الذاتية (الأوتوبيوغرافيا).

توفي ابن خلدون- رحمهُ الله- في مِصر عام 1406، ودُفِن في مقابر الصوفية؛ شمال القاهرة، تاركًا ورائهُ بصماته الواضحة على تاريخ وحضارة الإسلام بشكلٍ خاص والحضارة الإنسانية بشكلٍ عام، إنَّ آثار العلامة ابن خلدون ومناقبهُ الكثيرة عبارة عن صفحاتٍ مخلَّده لا تُطوى رُغم تسارُع السنين، وما تزال مصنفاتُهُ وأفكاره نبراسًا للدارسين والباحثين على مدار العصور، كما إنَّهُ يعتبر رمزًا تاريخيًا للفكر المستنير عندَ الشُعراء والأُدباء المعاصرين؛ الذين يستحضرونه في رفضهم للواقع السياسي والاجتماعي القائم، ومن هؤلاء الشاعرالتونسي محمدالصغير الذي خاطب في مقطع شعري تمثال ابن خلدون الموجود في أهمَّ شوارع العاصِمة التونسية،مما تسبَب في مَنع ديوانٍ لهُ من النَشر في العهد البورقيبي، حيثُ قال:

ياابن خلدون المدينة أضيق من خَطَاك…

ولكَ ممرر تُ ببرنسك الحديد

فساءَنِي زمني…

فاخرجْ من الوَثَن الجَديد،

واكتُبْ إلى الوَثَن المُقابِلِ ما يَليقُ بِحَجمِهِ!

يرى المؤرخ اللبناني فيليب حتّى أنَّ ابن خلدون يعتبر من أعظم الفلاسفة والمؤرخين الذين أنجبتهم الحضارة الإسلامية،ومن أكبر ما أنجبَت كل العصور والأزمنة.

وفي الختام، نسأَلُ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى بمنِّهِ ورحمتهِ؛ أنْ يغفرَ للعلامة ابن خلدون، وأن يُعامله بفضلهِ وإحسانِهِ، وأن يُخلَّفَ الأُمَّة خيرًا منه؛ إنَّهُ جوادٌ كريم.

المراجع:

  • القواعد الأساسية للغة العربية (حسب منهج الألفية لابن مالك وخلاصة الشراح لابن هشام وابن عقيل الأشموني): أحمد الهاشمي.
  • ابن خلدون- مقال في المنهج التجريبي: محمود السعيد الكردي.
  • الأفكارالسكانية في كتابات ابن خلدون: عبير ضيدان الجنابي.
  • نحن والحضارة والشهود: نعمان عبد الرزاق السامرائي.
  • الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته: مصطفى الشكعة.
  • المقدمة لابن خلدون.
  • ابن خلدون: عمر فاروق الطباع.
  • الدين والدولة والعمران في رؤية ابن خلدون: رضوان السيد.
  • نحو رؤية فلسفية تربوية للقيم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة: علاء صاحب عسكر عباس.

[1]مقدمة ابن خلدون: بن خلدون، الباب الأول: (في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض)، دار يعرب للدراسات والنشر والتوزيع، المجلد الأول، سوريا، 2004، ص38.

[2]مقدمة ابن خلدون: المرجع السابق، ص 588.

[3]ابن خلدون:عمر فاروق الطباع، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت، 1997م، ص30.

 

[4]الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته: مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، ط 3، القاهرة، ص198.

[5]نحن والحضارة والشهود:نعمان عبد الرزاق السامرائي، سلسلة كتاب الأمة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطرج1، 2011، قطر، ص120.

[6]مقدمة ابن خلدون: مرجع سابق: ص152.

[7]مقدمة ابن خلدون: مرجع سابق: ص152.

[8]الأفكار السكانية في كتابات ابن خلدون: عبير ضيدان الجنابي، مجلة كلية التربية الأساسية، جامعة بابل، العدد 12، العراق،   2013م، ص 381.

[9]الدينوالدولةوالعمران في رؤيةابن خلدون: رضوان السيد، مجلة التفاهم، العدد 43، 2014، http://tafahom.om/index.php/nums/view/13/261

[10]ابن خلدون- مقال في المنهج التجريبي: محمود السعيد الكردي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1984م، ص305، بتصرف.

[11]نحو رؤية فلسفية تربوية للقيم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة: علاء صاحب عسكر عباس، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2000الأردن، م، ص228.

[12]القواعد الأساسية للغة العربية (حسب منهج الألفيةلابن مالك وخلاصة الشراح لابن هشام وابن عقيل الأشموني): أحمد الهاشمي، دار الكتب العامة، بيروت، 2009م،ص4.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

  1. المختار لعروسي ... يقول

    قول صاحب المقال:
    كما ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة هي الوجه الآخر للدين، أو هي تمظهرٌ من مظاهر سلامة الدين، حيثُ نجده بذلك يُأسس لمعادلة أنَّ سلامة التدين تُؤدي إلى قيام دولة عادلة وقوية،
    واستشاهده بقول ابم خلدون …
    لذلك يقول: ” إذا كان فيهم النبي أو الوَلِّي الذي يَحُثُهم على القيام بأمرِ الله ويُذهب عنهم مذموماتِ الأخلاق ويأخُذُهم بمحمودها ويؤلِف كلمتهم لإظهار الحق؛ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. واعتبر ذلك بدولتهم في المِلَّة لِما شُيَّدَ لهُم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا وتتابع فيهم الخلفاء، عَظُمَ حينئذٍ مُلكهم وقوَي سُلطانهم”.[6]
    على أساس أن الدين صانع الدولة أو هي الوجه الآخر للدين …
    الدولة حاصل الدين .. وهذا صدق واقع لكنه يمثل جزءا من التراث الإنساني في حال اعتماد الدين اصل معاملات وتنظيمات وضوابط …
    وهنالك جزء اغفل من صاحب المقال من قول ابن خلدون :
    إذا كان فيهم النبي أو الوَلِّي الذي يَحُثُهم على القيام بأمرِ الله ويُذهب عنهم مذموماتِ الأخلاق ويأخُذُهم بمحمودها ويؤلِف كلمتهم لإظهار الحق؛فالنبي معلوم دوره …أما الولي هنا وكأن القصد منه الحاكم لا غيره من اصناف الناس …
    والولاية في لسانه على ما فهمت من كتابه هي الولاية السياسية بأسبابها وشروطها التي ذكر … كما أن ابن خلدون في مقدمته له إشارات يتجاوز فيها مجموع الشروط التي تتوجب في الخليفة فيما اتفق عليه كثير العلماء … بإشارته لحقيقة العصبية ومحصلاتها …
    وكأنه أراد أن يبرز أن قيام الدولة القوية يقوم على أساس الحرية والأخلاق … لأنه يعلم ” من خلال ماطرحه طبعا ” أن الحضارة المادية سواحة أينما وجدت الأمن والاستقرار مكثت ردحا من الزمن وهي تراكمات على أساس التدرج …
    وهنا لا يلغي الدين كأصل لقيام الدول ولكن يقول أن قيام الدولة القوية يكون كذلك على أساس دسني أو أساس قيمي بما كان لأهل البلاد من ترسبات ثقافية…
    وأهم القيم الحرية والفضيلة …
    تعليقي باختصار المختصر … بكل الجمال والمحبة …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.